دكتور محمد عمارة المدينة: تأملات قرآنية (145) حقيقة الابتلاء
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ .....} [البقرة: 155].
يخبر سبحانه أن ابنتلاء العباد بالمحن أمر لا بد من حصوله، ليتبين الصادق من الكاذب، والجازع من الصابر، وهذه سنته تعالى في عباده.
والابتلاء يقع لجميع الخلق غير أن ابتلاء أهل الإيمان أشد وفِي الحديث: {أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل}.
ومن حِكَم الابتلاء تمحيص الله تعالى لعباده: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}، وقد يكون الابتلاء قصاصاً في الدنيا مما تقترفه أيدي العباد، قال تعالى: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَ هَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ}، كما قد ينزل البلاء على العباد رفعاً للدرجات، أو وضعاً للآصار وتكفيراً للخطايا والسيئات، قال رسول الله: (من يرد الله به خيراً يُصِبْ منه ). وفِي الصحيح: (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفَّر الله بها عنه، حتى الشوكة يُشاكها).
والابتلاء بالسراء تارة، وبالضراء من خوف وجوع أخرى؛ لأنه لو ابتلاهم بالخوف كله، أو الجوع، لهلكوا، والمحن تمحص لا تهلك.
كما يكون الابتلاء بذهاب الأموال أو بعضها ومن ذلك سرقتها أو استيلاء الظالمين عليها.
والابتلاء بنقص الأنْفُسِ أي: ذهاب الأحباب من الأولاد، والأقارب، والأصحاب، ومن أنواع الأمراض في بدن العبد، أو بدن من يحبه.
وقلة الثَّمَرَاتِ ببرد، أو حرق، أو آفة سماوية من جراد ونحوه.
ووقوع البلاء يجعل الناس قسمين: جازعين وصابرين، فالأول، حصلت له المصيبتان، فوات المحبوب بحصول هذه المصيبة، وفوات ما هو أعظم منها، وهو الأجر بامتثال أمر الله بالصبر، فرجع بالخسارة والحرمان، ونقص ما معه من الإيمان، وفاته الصبر والرضا والشكر، وحصل له السخط الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب، فحبس نفسه عن التسخط قولا وفعلا، واحتسب أجرها عند الله، وعلم أن ما يدركه من الأجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ، فهذا قد صارت المصيبة نعمة في حقه؛ لعظم أجره وعظيم ثوابه، ولهذا قال تعالى: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) أي : بشرهم بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
قد يظن البعض أن الابتلاء مجرد السلب، وهذا خطأ فالابتلاء كذلك في العطاء، قال الله تعالى حكاية عن سليمان وهو النبي الملِك الذي أعطي من الملك ما لم يعط غيره من الأنبياء: { قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}
هذا التمكين والملك والسلطان الذي أنا فيه حتى يحمل إليّ عرش هذه في قدر ارتداد الطرف من مأرب إلى الشام، من فضل ربي الذي أفضله عليّ وعطائه الذي جاد به علي، ليبلوني, يقول: ليختبرني ويمتحنني، أأشكر ذلك من فعله عليّ، أم أكفر نعمته عليّ بترك الشكر له.
والابتلاء لا يقتصر فقط على ما ذكر وإنما هي أمثلة على أهم أنواعه، فقد يكون في زوجة ناشز، أو ولد عاق، أو والد جافٍ، أو جار سوء، أو نوع واحد من الولد أو عدم الولد أصلا، وقد يكون الابتلاء في هيئة حسنة أو قبيحة، أو قوة بدن أو ضعفه، أو محبة من الخلق أو مذمتهم، وقد يكون الابتلاء كما وقع لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وغير ذلك كثير.
كما أن سنة الابتلاء لا تتنافى مع ما يظهر من الحياة الطيبة لبعض الخلق فربما يكون عندهم من الابتلاء ما لا يُعلم، وربما ينتفي الابتلاء بالشر عنهم ويبقى الابتلاء بالخير من النعم لهم، وفي النهاية كل ذلك بقدر وحكمة، ولا يظلم ربك أحدا!
د. محمد عمارة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق